الهجرة إلى البحر
وصلَ الليلُ سريعاً !! وأنا أتدحرجُ بين خرائب الكلمات الساقطة الحلوة ، بين رفات مواعظ مولانا الوثن الأعظم ، تأخذني أللعنة حيناً ، أقفزُ بين محطّات العتمة ، وأغرقُ أحياناً بين خطابات الوالي .
أمس ، لا أعتقدُ ذلك بالضبط ، ربمّا قبلَ شهر أو سنة ، يبدو لي في اليوم الفائت ، اختلطَ الماضي والحاضر والآتي في زنزانات الوعظ الوثنية ، والظلمة ألغَت كلّ محطّات الوقت .
فلنفترض ما حصلَ أمس ، هذا لا يضّر : تسلقتُ جدارَ الر فض الأملس ، زحفتُ على طحالبه كالخنفساء ، كان الجمعُ غفيراً أثناء الزحف ، متحلقة حولي الأنظار ، يصلبها الموت من الخوف . أرجَعني صوتُ الواعظ نحو غياهب عصر الرعب القاتل .
منـذ البدء والكلمات الساقطة الحلوة تلعبُ فينا ، فأصبحنا بفضل دعارتها علباً فارغة لا تصلحُ إلا للنقر عليها .
في اليوم التالي ، لا أعرف معنى اليوم التالي !! ليس لدينا زمنٌ نؤرخّ فيه العمر ، بوصلة الوقت يملكها الواعظ وحده ، سفيرُ الله يذيع بيانات ، تعلنُ عن زمن الميلاد ووقت مغادرة الدنيا .
كان جنودُ الوالي نياماً ، والوحشة والغربة ، ظلاّن ، يعشقُ بعضهما بعضاً في محراب الوعظ ، في تلكَ الساعة ، صرختُ بأعلى ما أملكه من جهد :
ـــــ هند ... هند ... ما معنى أن يحيا الإنسان بلا مضمون ؟ .
صوتي أثقلُ من صمت القبر ، سمعَتْ هندُ صراخي ، فطارت نحوَ البحر .
كان جنودُ الوالي نياماً ، راودني حلمُ التسلق ، رقصتُ له ، وعلى أطرافي التي يأكـلها التسوس ، وإسناد أظافري التي يرقدُ فيها الدود ، تسلقتُ ، حَبوتُ في بداية الأمر ، كان الحائطُ مرصوفاً بجماجم أطفال الفقراء ومطلياً باللون الأحمر .
في تلك الساعة ، هند ، تحلـّقُ فوق البحر ، وأنا مشغولٌ في البحث عن درب يُبعِدُ عنّي لغة الخزي ، أبحثُ عن لغة تسقيني معنى ، في تلك اللحظة ، جاءَ بشيرُ الخير ؛ زغرودة هند ، وحليب أمي ، وتصفيق الطين الأسمر ، وأنا في جوف الليل وفي عمق سواد اللجّة ، لحمي ينّز دماً من ثقل الكلمات البلهاء ، ورأسي مزبلة لمواعظ كهّان الوثن الأعظم .
زغرودة هند ،ابتسامة أمي ، تصفيق الطين الأسمر يزيد عنادي ، وتسلقتُ ، تسلقتُ ، وصلتُ لنافذة الرفض ، صغيرة جداً هي النافذة ، بحجم الجرذ المولود حديثاً ، أو أصغر ، تشبثتُ بها .
بابُ النافذة العليا حطّمَ قيده ، شُرّعت الأبوابُ أمامَ البحر ، وصلَ الضوءُ سريعاً ، أصابني الدُوار ، لكنّ الريحَ القادم من جهة البحر ، قلعَ القرنَ المزروع برأسي .
مثلما تـُقلـَعُ الأضراس يا هند !!! . كلٌّ في جبهته قرن يزرعه الواعظ بأمر من مولانا الوالي لنصبح من شعب الغلمان ، كلّ صباح يجـلـدنا الواعظ بسوط الكـلمات الساقـطة الحـلوة ، يقـول لنا :
ـــــ الكّل هنا منتسب بالفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها إلى شعب الغلمان .
الريح أطاحت بالقرن المزروع برأسي ، وأنا أمسكُ نافذتي وأقاوم ، سقطَ القرنُ المتعـفنُ أرضاً ، رأسي أصبحَ مئذنة للخير وللنور ، عيني ما عادت تنظرُ للأسفل .
في الأفق الغاطس بشعاع الضوء الأبيض ، رأيتكِ يا هند ، تمرّينَ من أمامي وأنتِ تمتطين حصانَ الغيمة الهائجة كحورية من حوريات البحر .
لا أملكُ في تلكَ اللحظة غير صراخي ، كان صراخي أسرع من صوت صهيلِ الماء المتدفق من عمق البحر ، تمدّدَ في الأفق الواسع ، كان الصراخُ خرافياً ، استطال وخرج من النافذة :
ـــــ هند .. هند .. هند .
لكنكِ عبرتِ الأفقَ المغسول بالشفق الأرجواني وابتسامة على شفتيكِ لا زالت ملء فمي ، وابتلعكِ البحر ، وبقيتُ ملتصقاً بالنافذة رغمَ السوط الذي بدأ يلتصق بظهري ، ليأكل ما تبقـّى فيه من حياة .
* * *
ــــ لماذا تجلسُ هكذا يا ولدي ؟
ـــــ هذا ما اعتدتُ عليه يا أمي .
ـــــ لا يجوز الجلوس على قارعة الطريق !!
ـــــ الطريق مسرح الناس ، وعلى قارعته أرى الأشياءَ بوضوح .
ـــــ لكنّه حالـة من التجسس على ما يفعلـَه الآخرون ، ربمّا السطو على أسرارهم .
ـــــ لم تكن لنا أسرار مخبّئة في صناديق مغلقة ، الجميع يعرفُ أسرار الجميع .
ـــــ لكنّ البعضَ لا يروق له أن يجد أسراره تحت رقابة أحد .
ـــــ ليس البعض يا أمي ، الكّل يرفضُ الوصايـة على أسراره ، والأسرار مكشوفـة أمام الكّل ، والكّل كتاب مفتوح بين فخذي عشيقة الوالي .
ـــــ رغم هذا ، فانـك تعرضّ نـفسكَ للاسـتجواب ، وربمّا للـموت ، وأنا لا أملـك غيرك يا ولدي .
ـــــ اطمئني يا أمّاه ، فأنا أتقن ارتداء ملابسي الداخلية سرّاً .
ـــــ لعبة اِكتشفها جند الوالي .
ـــــ كيفَ عرفتِ ذلكَ يا أمّاه ؟
ـــــ أمس شنقوا جارنا نوفل .
ـــــ لماذا ؟
ـــــ ضبطوه يرتدي سروالا داخليا قصيرا .
ـــــ وبعد !!
ـــــ علقّــّوا خلف مشنقته لائحة تعليمات الوالي ، وشنقوه .
ـــــ يا للكارثة !!!
ـــــ وقبلها رجموا مريم ، ورموا جثتها للكلاب .
ـــــ مَن هي مريم يا أمّاه ؟
ـــــ الحمامة التي تسكنُ أكواخَ العوز .
ـــــ وماذا فعَلتْ ؟
ـــــ أرادتْ أن تنجو من العقوبة ، فخلعَتْ ملابسها ، فأمسكوا بها متلبسة بالجرم المشهود .
ـــــ كيفَ حصلَ هذا ؟
ـــــ كانت عارية ، وضوء الشمس يداعبُ حلمتها .
ـــــ وهل كنتِ حاضرة حفلَ الرجم هناك ؟
ـــــ كنتُ هناك ، وكانت هندٌ حاضرة ، صرَخَتْ ساعة إعلان المرسوم الوثني !!
ـــــ وكيف نَجَتْ ؟
ـــــ رُسل الوالي بحثوا عنها في كلّ مكان ، لكنّها اِختفـَت ، ولم يعد لها أثر .
ـــــ لقد شاهدتـَها تمتطي صهوة الريح باتجاه البحر .
ـــــ منذ متى يا ولدي ؟
ـــــ لا أعرفُ بالضبط ، ربّما أمس ، أو الشهر الذي اِنصرم ، أو السنة الماضية .
ـــــ كيفَ رأيتها ؟
ـــــ كنجم كبير في عالمي اللامرئي .
ـــــ هل أدمنتَ على فقدان الذاكرة يا ولدي ؟
ـــــ وهل أنتِ متأكدة ، أنـّي أملكُ ذاكرة عندما خرجتُ من رحمكِ ؟
ـــــ الأوغادُ مسخوكَ مخلوقا آخر ، عندما وضعوك في زنزاناتهم .
ـــــ أنا أعاني من زنزانتي الداخلية يا أمّاه !!
بكـَت أمي بحرقة ، سقطت دموعٌ غزيرة منها ، وقبل أن أغرق في طوفان دموعها ، طبَعت على جبيني قبلة واِختـفـَتْ . رأيتها بعد حين تمتطي صهوة الريح باتجاه البحر ، وأنا
أمسكُ نافذتي ، وأقاوم .
* * *
النافذة ما عادت بحجم الجرذ المولود حديثا ، اِتسّعَ الأفق الأزرق فيها ، وتدّلتْ شمسٌ مشرقة وهلّ هلال ، ونسيمُ عَذِبٌ يأتيني من بُعد ، والسوط الأخرس ينهشُ لحمي ، والنافذة العليا اِتسعت أكثر ، وتلويح يأتيني من هند ، ونداء من أمي يدخلُ رأسي ، والحرس الوثني يطلقُ نيرانَ الكلمات الساقطة الحلوة ، وأنا في هذا الوقت محاصر ، سوفَ أموت قريباً ، أخّـرُ صريعا ، شهيدا ، مجرما ، أرحلُ بالرجم أو الشنق ، أو تحت سياط الكلمات الساقطة الحلوة ، لكّني سأقاوم كي أصل البحر .
زغرودة هند ، ونداء الأم ، وتصفيق الطين الأسمر ، جعلوني أتتشبثُ بالصبر ، وأقاومُ بشكل أعنف ، وأُداري الموقفَ أكثر .
عند الفجر التالي ، كان نداءُ الله قوياً ، اهتزّ الرأس المرفوع على رمحي ، جَلجَلت الأصواتُ ، وأجراسُ دوّتْ في الأفق الواسع ، تـُعلنُ عن أزمنة آتية للعشق وأخرى لحرق وصايا الوثن الأعظم . وبدأتُ أفيق ، ما عاد الرأس بلا ذاكرة يا أمّاه ؟ الذاكرة حاضرة في رأسي يا هند !!
صرختُ بصوت كالرعد : أمي ... هند ...أمي .....هند .
النافذة الآن اِتسعت أكثر من ذي قبل ، والأفق الأزرق يملكُ أجنحة ، وهند وصَلت مسرعة ، كان جناح الأفق الأزرق يحملها ، وبأسرع من خَفق القلب ، حَملتني نحو البحر .
كان البحرُ كبيراً جداً ، رحيماً وعطوفاً جداً ، غَسَلَ الجرَبُ المتراكم من فعل الخوف ، والكلمات الساقطة الحلوة ، ما عادَت صالحة للاستعمال ، أشرَقَت الدنيا في قلبي ، وضحكتُ ، ضحكتُ ، الوالي يأمرنا أن لا نضحك ، قال الوالي يوماً :
ـــــ الضحك بلا سبب ، من قلّة الأدب .
وبقينا نبكي ، نبكي ، واجتهدَ القومُ بتفسير الأسباب ، وبقينا لا نعرفُ لون وشكل البسمة ، لم نعرف طعم ولا صوت الضحك ، والدنيا فارغة إلا من البكاء .
سأذهبُ نحو الشمس وأزور القمر الليلي وأسامره ، سأموت من الضحك ، أغرق فيه ، أراسله وأناجيه .
وصلَ التمساحُ الأخضر ، ركبتُ ظهره ، وهند ركبَت ظهرَ التمساح الآخر ، اِبتسمَ التمساحان لنا يا أمّاه ، . كان الوالي يركبُ ظهري كلّ صباح ، تقرّحَت عظامنا من شدّة الركوب ، وحديث الوالي يشربُ ما شاءَ من العمر وينخرُ في العظم ، والبحر هنا ، لا يعرف البكاء ، يحملُ في داخله رفضاً يُرقصُ الحياة ، وفي البحر ، نصطادُ الدفءَ ، الخصبَ ، والدنيا زاهية كأحلام الأطفال ، والليلة موعدنا مع الفرح القادم من أقدام البحر ، ها هي أمي قادمة من صوب الخوف إلى صوب الرفض ، والليلة عرس ، وهـند تبكي فرحاً ، وعلى أجنحة اللامرئي ، وصلت مريم يتبعها نوفل ، اِجتمع الشملُ ، والعرس القادم سيكون مع الفجر .