شعراء على باب خامس الخلفاء
عندما تفضي الخلافة إلى خليفة من الخلفاء , يكثر الشعراء على بابه , وكلّ طامعٌ في عطائه ونواله , فبعض الشعراء يتكسب بشعره , وبعضهم يغالي في المديح حتى يجعل منزلة الممدوح أعلى من منزلة الأنبياء ,و بعضهم أفحش في الكلام , فاستحق من الناس الملام , وهناك من غالى في وصف محبو بته , وتطرق إلى الدين في شعره , فجعل الرهبان والعباد الأتقياء , يسجدون لها عندما يسمعون صوتها , أو تمنى أن تكون ضجيعته في قبره ولا يبالي بعدها إلى الجنة ونعم المصير أم إلى جهنم وبئس المصير !!وكم من شاعر يمدح , وقد كان بالأمس يقدح ...........
وظن كثير من الشعراء أن خامس الخلفاء عمر بن عبد العزيز مثلُ غيره من الخلفاء – ولم يكونوا على علم بأنه طلق الدنيا ومتاعها لانشغاله بالرعية ومصالح الناس –فعندما((أفضت الخلافة إليه وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد على الخلفاء من قبله، فأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم في الدخول حتى قدم عدي بن أرطأة عليه وكان منه بمكانة فتعرض له جرير وقال:
يا أيها الرجل المزجى مطيته ... هذا زمانك إني قد خــــــــــلا زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أني لدى الباب كالمشـــــــدود في قرن
لا تنس حاجتنا لاقيت مغفرة ... قد طال مكثيَ عن أهلي وعن وطني
فقال: نعم يا أبا عبد الله، فلما دخل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: يا أمير المؤمنين: الشعراء ببابك، وألسنتهم مسمومة، وسهامهم صائبة، فقال عمر رضي الله عنه: ما لي وللشعراء، فقال: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدح فأعطى، وفيه أسوة لكل مسلم، قال: صدقت، فمن بالباب منهم؟ قال: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة القرشي قال: لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه، أليس هو القائل:
ألا ليتني في يوم تدنو منيتي ... شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طَهوري كان ريقك كله ... وليت حنوطي من مشاشك والدم
ويا ليت سلمى في القبور ضجيعتي ... هنالك أو في جنة أو جهنم
فليته عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا، ثم يعمل عملاً صالحاً، والله لا يدخل علي أبداً.
{وهنا سوف نرى أن سيدنا عمر لم يحرم الشعر , بل كان ناقدا بصيرا، وهو يعلم أن الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح , وفي نقده نرى أنه اهتم بالناحية الدينية والإيمانية والأخلاقية , لذلك جاء نقده – كما رأينا وسوف نرى – رسالة لكل من أفحش في شعره , أو لم يهتم بآخرته ,فمنعه من الدخول عليه فقط دون التطرق إلى الجوانب النقدية الأخرى المعتبرة عند النقاد }
فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟ قال جميل بن معمر العذري قال: أليس هو القائل:
ألا ليتنا نحيا جميعاً فإن نمت ... يوافى لدى الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب ... إذا قيل قد ســــــوي عليها صفيحها
أظل نهاري لا أراها وتلتقي ... مع الليل روحي فــــي المنام وروحها
والله لا يدخل علي أبداً، فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟ قال: كثير عزة قال: أليس هو القائل:
رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خروا لعزة ركعاً وسجودا
أبعده الله، فو الله لا يدخل علي أبداً، فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟ قال: الأحوص الأنصاري قال: أبعده الله، والله لا يدخل علي أبداً، أليس هو القائل؟ وقد أفسد على رجل من أهل المدينة جاريته حتى هرب بها منه:
الله بيني وبين سيدها ... يفر مني بها وأتبعه
فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟ قال: همام بن غالب الفرزدق. قال: أليس هو الذي افتخر بشعره في الزنا ؟ والله لا دخل علي أبداً، فمن بالباب غيره ممن ذكرت؟ قال: الأخطل التغلبي. قال: أليس هو القائل:
ولست بصائم رمضان عمري ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عيساً بكوراً ... إلى أطـــــــــلال مكة بالنجاح
ولست بقائم كالعبد يدعو ... قبيل الصبح حـــيّ على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً ... وأســـجد عنـــــد منبلج الصباح
أبعده الله عني، فو الله لا دخل علي أبداً، ولا وطئ لي بساطاً، وهو كافر، فمن بالباب غيره من الشعراء ممن ذكرت؟ قال: جرير. قال: أليس هو القائل:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأقــــــــوام
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان ولا بد، فهذا، فأذن له ,قال عدي بن أرطأة: فخرجت فقلت: ادخل يا جرير، فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمداً ... جعل الخلافة في الإمام العـــادل.
وسع الخلائق عدلُه ووقاره ... حتى ارعووا وأقام ميل المائل
إني لأرجو منه نفعاً عاجلاً ... والنفس مولعة بحب العــــــاجل
والله أنزل في الكتاب فريضة ... لابن السبيل وللفقير العــــائل
فلما مثل بين يديه قال: يا جرير اتق الله ولا تقل إلا حقاً،( وهذا تنبيه من سيدنا عمر للشاعر ألا ينافق في شعره وألا يغالي غلوا , أو يمدحه بما ليس فيه ) فأنشأ يقول:
كم باليمامة من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن بعدلك يكفي فقد والده ... كالفرخ في العش لم يدرج ولم يطر
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ... أم قد كفاني ما بلغت من خبري
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... مـــــن الخليفة ما نرجو من المطر
إن الخلافة جاءته على قدر ... كما أتـــــى ربَّه مــــوسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هـــذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حيا لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخــيرات من عمر
فقال: والله يا جرير لقد وافيت الأمر، ولا أملك إلا ثلاثين ديناراً فعشرة أخذها عبد الله ابني، وعشرة أخذتها أم عبد الله، ثم قال لخادمه: ادفع إليه العشرة الثالثة، فقال: والله يا أمير المؤمنين إنها لأحب مال اكتسبته، ثم خرج فقال له الشعراء: ما وراءك يا جرير؟ فقال: ورائي ما يسوؤكم خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإنني عنه لراض، ثم أنشأ يقول:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا )) .(1)
الشيخ الشاعر مصطفى قاسم عباس
(1) – المستطرف في كل فن مستظرف: بهاء الدين الأبشيهي ص : 91ا ط : 3 دار صادر – بيروت . بتصرف
والقصة كذلك في العقد الفريد الجزء الأول باب : على عمر بن عبد العزيز